“أبي فلاح وأمي لاتقرأ ” خاص مديرية جبل حبشي
تعز الدستور الأخبارية خاص د. سيف الحميدي
كنت في صغري وفي المراحل الأولى من الابتدائية أتمنى أن أصل سريعًا إلى المراحل المتقدمة لكي أمتلك قلم جاف لأنني لم أعد أطيق الكتابة بالقلم الرصاص. لكنني كنت حينها لا أعلم أن الخطأ كان بالإمكان أن يُمحى. لكنني كبرت وامتلكت أقلام الحبر الجاف، وتعلمت أن الحياة لا يمكن أن تغض الطرف عن أفعالنا التي اقترفناها، وأننا أصبحنا نحاسب على كل شيء قمنا به أو كتبناه.
كانت أمي آنذاك تقف بجواري وأنا أقرأ فتقول لي: “أي بني، لقد تعلمت من خالك أثناء ما كنا صغار مقولة ‘العلم يعلي بيوتًا لا أساس لها، والجهل يهدم بيوت العز والشرف’.” حينها كانت هذه الكلمات خالدة في ذهني الصافي من غواش الحياة، رغم عدم فهمي بها آنذاك. وكذلك أمي لم تكن تعلم ما تخفي هذه الكلمات من معاني عظيمة.
حقيقة، كبرت وأكملت المرحلة الدراسية، وانتقلت إلى المرحلة الجامعية في كلية الطب بالنظام الخاص. لأننا أبناء الفلاحين ليس لنا أي حقوق في النظام العام وفي الجامعات الحكومية لكي نلتحق بها، لأننا ليس لدينا أي واسطة تؤهلنا لذلك، وإنما نحن عبارة عن حطام حرب في وطن ممزق لا يريدون منا أن نرمم جروحه. لكني أصريت أن أكون غير ذلك. التحقت بالجامعة وعلى نفقتي الخاصة في كلية الطب والعلوم الصحية. عملت في الأعمال التجارية وكافحت وعانيت وواجهت كل أنواع الحرب النفسية والمشاكل الداخلية والإحباطات والتراكمات وكل شيء. حيث إني لم أستسلم، وإنما صنعت من هذا التراكم طريقًا حقيقيًا وجدارًا صلبًا لمقاومة الحياة رغم كل شيء حاصل.
وصلت إلى مرحلة كبيرة من القناعة، لم أعد أبه إلى أي شيء قد سبق فيه الفشل من قبلي أو أي شخص وجوده في حياتي يسبب مشاكل نفسية وعاطفية. حاولت أن أتجنب حتى نفسي أحيانًا وذلك بالخلود إلى النوم تارة أو القعود في زاوية ظلامية للنظر في مستقبل الغد الذي ينتظرني.
حقيقة، لقد وصلت، لقد فعلتها! هاأنا ذا أقف بكل شموخ وعزيمة وطموح وإرادة. أقول وبكل عزة واقتدار: “لقد وصلت يا أمي.” ها هنا أصبحت أمي تتأمل في ملامحي بني، وبلهجتها القروية: “يا ابني، ألا تتذكر مقولتي لك في صغرك؟” وهي تداعب شعري بيديها الشائخة من ترهل الحياة. قلت لها: “نعم يا أمي.” قالت: “العلم يعلي بيوتًا لا أساس لها، والجهل يهدم بيوت العز والشرف.” وكذلك قالت: “العلم نور والجهل ظلام، وها أنت تشع نورًا في حياتي وفرحًا في قلبي بوصولك إلى مبتغاك.” قلت لها: “أمي، أعدك أن هذه لم تكن النهاية، وإنما البداية لخوض المزيد من الدرجات العلمية في الدراسات العليا.” قالت: “وفقك الله يا ولدي، وأنار طريقك في الحياة.”
هذه هي الأم، رغم أنها ليست متعلمة لكنها صنعت أجيالًا متسمة بالأخلاق والقيم والمعادن النبيلة والصفات المقدسة. صنعت جيلًا حافلًا بالنجاحات، محبًا للعلم، يسعى بكل جهوده لكي ينال من بريق الحياة رغم عنفوانيتها المفرطة ورغم كل شيء.