اليمن الشمالي قبل ثورة سبتمبر الجهل، الاستبداد، والظلام
الدستور الأخبارية خاص د. علي صالح الربيزي
في سبتمبر 1962، شهد اليمن الشمالي تحولًا جذريًا في تاريخه الحديث بقيام ثورة سبتمبر التي أسقطت حكم الإمامة المستبد وأعلنت قيام الجمهورية. لكن ما لا يعلمه الكثيرون هو حال اليمن في الشمال قبل تلك الثورة، حين كان يعيش تحت حكم الإمام يحيى حميد الدين وابنه الإمام أحمد، حيث الجهل والتخلف كانا سمة الحياة اليومية، وكان الشعب معزولاً عن العالم، خاضعًا لحكم استبدادي يسيطر على كل جوانب الحياة.
في ذلك الوقت، بينما كان العالم يحرز تقدمًا هائلًا في العلم والتكنولوجيا، وكان الروس قد وصلوا إلى القمر، كان الإمام يحيى حميد الدين يروج لأكاذيب وخرافات لا تصدق. فقد كان يزعم أن الكرة الأرضية معلقة بقرن ثور، وهي خرافة قديمة لا أساس لها من الصحة، وكان يستخدمها للتحكم في عقول الناس وإبقاءهم في حالة من الجهل والتبعية.
الإمام يحيى لم يكتفِ بذلك، بل لجأ إلى أساليب أخرى لخداع الناس وإبقاءهم في خوف دائم. فقد كان يخفي مذياعه في سلة معلقة وسط الغرفة ويخبر الناس أن هذا هو صوت الجن الذين يستطيع التحكم بهم، ويجلس على كرسي خيزران هزاز ويقول لهم إن الجن تحركه. هذه الأكاذيب كانت تجد من يصدقها في مجتمع لا يعرف أفراده أكثر من قراهم، بل وأكثرهم معرفة هو من زار عدن ورأى البحر لأول مرة في حياته.
هذا الجهل والعزلة لم يكونا وليدي الصدفة، بل كانا جزءًا من استراتيجية مقصودة للإبقاء على الناس في حالة من التبعية والخضوع. فالناس في صنعاء، حتى بعد قيام ثورة سبتمبر، ظلوا لا يأكلون السمك لعدة أعوام، باعتباره “ديدان” لا يجوز أكلها. كانت الحياة هنا عبارة عن ظلام وظلم وعزلة كونية، حيث لا يعرف الناس من الدنيا غير الحقل والبهيمة وركبة مولانا الإمام التي يجب تقبيلها كركن لا يكتمل الإيمان إلا به.
لكن القمع لم يكن مجرد فرض للجهل والعزلة. فعندما قامت ثورة 1948 الدستورية التي حاولت إسقاط حكم بيت حميد الدين ونصبت عبدالله الوزير إمامًا مع بعض الإصلاحات، لجأ الإمام أحمد، ابن الإمام يحيى، إلى أسلوب وحشي لاستعادة السيطرة. فقد أباح صنعاء للقبائل المحيطة بها لمدة 14 يومًا مقابل القضاء على الثورة، وهذا ما ذكرته الطبيبة الفرنسية “ڨ فاين” في كتابها “كنت طبيبة في اليمن”. تصف كلوديا كيف هجمت قبائل محيط صنعاء على المدينة ونهبت كل شيء باستثناء ملابس النساء، مما يعكس الفوضى والهمجية التي استخدمت لإخماد أي محاولة للتغيير.
كانت ثورة سبتمبر 1962 بمثابة بداية جديدة لليمن الشمالي، فهي لم تكن فقط حركة لإسقاط نظام استبدادي، بل كانت بداية لتحرير العقول من قيود الجهل والخرافات التي فرضها حكم الإمام. الثورة جاءت لتفتح آفاقًا جديدة أمام اليمنيين، لتعريفهم بالعالم من حولهم، ولتعليمهم أن الأرض ليست معلقة بقرن ثور، وأن الجن ليسوا هم من يحرك الكراسي، وأن السمك ليس “ديدانًا” لا يجوز أكلها.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن على قيام الثورة، يحتاج اليمنيون إلى استذكار تلك الحقبة المظلمة لتقدير قيمة الحرية والمعرفة. فالجهل والتخلف ليسا قدرًا محتومًا، بل هما نتيجة للسيطرة والقمع. ومعرفة الماضي بكل ما فيه من خرافات وظلم هي الخطوة الأولى لبناء مستقبل أفضل، حيث يكون العلم والنور هما سيدا الموقف، وليس الجهل والخرافة.