سلسلة لغز الحرب بين إسرائيل وإيران “الجزء الخامس والأخير”.خطيب ورجل دين ومقاتل… وظّف قدراته لصالح دولة أجنبية (خاص)
قضايا ساخنة/الدستور الإخبارية/خاص:
خاص | بصحيفة الدستور الإخبارية
المقدمة: هذا المقال هو أخر مقال من سلسلة لغز الحرب بين إسرائيل وإيران، نتمنى لكم قراءة ممتعة، ونعتذر عن أي تقصير صار منا.. وشكرًا
خطيب ورجل دين ومقاتل… وظّف قدراته لصالح دولة أجنبية.
قائمة ضحايا حسن نصرالله الطويلة ضمت عددا من العرب أكثر من الإسرائيليين.
كقائد لميليشيا كانت في حالة حرب طوال فترة وجودها، لم يكن حسن نصرالله غريبا عن الخطر. لكن في ليلة صيفية من عام 2006، لا بد أنه شعر بأن الموت كان قريبا للغاية. كان في جنوب بيروت آنذاك، في أحد مباني القيادة التابعة لـ”حزب الله” مع اثنين من أهم الرجال في حياته: قاسم سليماني، الذي كان حينها قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني. وعماد مغنية، قائد العمليات الموهوب لـ”حزب الله”. وكان الأول يحمل رسالة دعم من شخصية أخرى مهمة: آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ولكن حتى الدعم الذي أبداه زعيم دولة كبيرة لم يكن كافيا لإنقاذ “حزب الله”. فقد تحولت بيروت إلى جحيم حي بسبب القصف المستمر من إسرائيل، وكانت السماء تشتعل بالنيران في كل مكان. بدا أنهم محاصرون من جميع الجهات. وعندما غادروا المبنى، كانت طائرة إسرائيلية مسيرة من طراز “إم كيه” تحوم فوق رؤوسهم، وكأن ما يفصل بينهم وبين الموت هو مجرد أمر بسيط بقتلهم.
لم يصدر الأمر في نهاية المطاف، وبقي الثلاثة على قيد الحياة– على الأقل لفترة من الوقت. لا بد أنهم شعروا بأن يدا إلهية قد أنقذتهم، لكننا نعلم الآن السبب الأكثر ترجيحا. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود أولمرت، يتعاون مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في استهداف شخصيات ميدانية مثل مغنية، الذي كان مسؤولا عن مقتل مئات الأميركيين في لبنان في الثمانينات. لكن قتل جنرال إيراني بارز مثل سليماني، وقائد سياسي مثل نصرالله كان أمرا يتجاوز الحدود. وهكذا، حصلوا على فرصة مؤقتة للبقاء.
قُتل مغنية بعد عام ونصف في عملية أميركية-إسرائيلية في دمشق. لكن الاثنين الآخرين لم يعمرا طويلا. فقد اغتيل سليماني بضربة جوية أميركية في بغداد عام 2020، وفي 27 سبتمبر/أيلول 2024، قُتل حسن نصرالله البالغ من العمر 64 عاما في غارة إسرائيلية هائلة دمرت عدة مبان سكنية في منطقة الضاحية الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية في بيروت، والتي لطالما كانت قاعدة لـ”حزب الله”.
ركن ولاعب
خلال 32 عاما كأمين عام لـ”حزب الله” نجح نصرالله في تحويل “الحزب” إلى ركن أساسي في السياسة اللبنانية ولاعب رئيس في الحروب الإقليمية. كان خريج الحوزات الشيعية في النجف وقم، وكان رجل دين متعلما وخطيبا مفوها، يتقن اللغة العربية الفصحى واللهجة اللبنانية، بالإضافة إلى اللغة الفارسية التي تحدثها بطلاقة. وبعد انتقاله للعيش في إيران لأول مرة عام 1989، بالتزامن مع تولي خامنئي قيادة الجمهورية الإسلامية، بنى علاقات وثيقة مع “المرشد الأعلى” ودمج “حزب الله” بشكل أكبر في “محور المقاومة” الإيراني، وهو مسار ساعده فيه سليماني.
كان سليماني واحدا من رجال “الحرس الثوري” الذين خاضوا حربا طويلة ضد العراق في الثمانينات، مما أكسبه خبرة قيمة في ساحة المعركة. ساهمت هذه الخبرة في تحويل “حزب الله” إلى قوة عسكرية متقدمة هددت وقاتلت الكيان العسكري الإسرائيلي الهائل. لكن في خضم هذا التحول، اضطرت الميليشيا اللبنانية إلى تنفيذ أوامر إيران في الحروب الأهلية في العالم العربي، ما أدى إلى مقتل عدد من إخوانهم العرب يفوق ما قُتل من الإسرائيليين.
البدايات
بدأت حياة حسن نصرالله في أغسطس/آب 1960، عندما وُلد في برج حمود، إحدى ضواحي بيروت الشرقية، التي تعد جزءا من محافظة جبل لبنان. وكان هو الطفل الأول لوالديه، عبد الكريم نصرالله ونهدية صفي الدين. خلال السنوات القليلة التالية، أنجب عبد الكريم ونهدية طفلا كل عام، ليصل عدد الأبناء إلى خمس بنات وأربعة أبناء.
يعود نسب عبد الكريم إلى قرية البازورية، التي تقع إلى الجنوب من بيروت بنحو ساعة، بالقرب من مدينة صور القديمة، إحدى أقدم مدن العالم. كان يقول إنه من نسل النبي محمد، مما منحه، ومنح حسن لاحقا، الحق في استخدام لقب “السيد” قبل اسمه، كما منح حسن الحق في ارتداء العمامة السوداء.
وُلد حسن في منطقة كان فيها شيعة لبنان من بين أكثر الفئات تهميشا. كان لهم حضور محدود جدا في النظام السياسي للبلاد، وكانت حياتهم الاجتماعية خاضعة لسيطرة عدد قليل من العائلات الإقطاعية الكبيرة. كانت أسرة حسن أسرة تقليدية. وكما قال لاحقا في مقابلة مع إحدى القنوات الإيرانية: “كنا فقراء ومضطهدين، وقد انتقلنا إلى بيروت من جنوب لبنان في محاولة للعثور على وظيفة وكسرة خبز”. كان والده يدير متجرا صغيرا.
في تلك الفترة، كان الكثير من الشيعة منجذبين إلى “الحزب الشيوعي” اللبناني والتيارات اليسارية الأخرى. وكان لدى أكبر مجتمعين في المنطقة من حيث الأغلبية الشيعية، إيران والعراق، أحزاب شيوعية قوية، مما دفع بعض معارضيهم إلى اتهامهم بأنهم شيعة شيوعيون. لكن سرعان ما ستغير التطورات القادمة من إيران ديناميكيات السياسة اللبنانية بشكل جذري.
قبل أقل من عام من ولادة نصرالله، انتقل موسى الصدر- وهو رجل ولد في إيران ينحدر أجداده من جنوب لبنان- إلى مدينة صور، كمبعوث من القيادة الشيعية في النجف وقم. ساهم الصدر في تنظيم الطائفة الشيعية في لبنان، التي كانت آنذاك غير منظمة، وذلك في وقت كان المثقفون الشيعة الإيرانيون يشهدون انقسامات مع التيارات الماركسية، مما أتاح ظهور تشكيلات سياسية جديدة. وفي عام 1974، انضم الصدر إلى مهدي شمران، وهو إيراني آخر مزروع في لبنان، لتأسيس “حركة أمل” الحزب السياسي الذي يمثل الشيعة في لبنان.
وعلى غرار كثير من البيروتيين، عاش حسن نصرالله جنبا إلى جنب مع أشخاص من ديانات مختلفة، وخاصة المسيحيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية في ضواحي بيروت الشرقية. لطالما ترددت شائعات بأنه كان يتحدث اللغة الأرمنية بطلاقة بسبب نشأته هناك.
ولكن في عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، مما أدى إلى صراع بين الطوائف المختلفة في البلاد، وضد اللاجئين الفلسطينيين الذين شكلوا العمود الفقري لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” في بيروت. سقطت بيروت الشرقية في يد الميليشيات المسيحية، وفرّت أسرة نصرالله جنوبا إلى البازورية، حيث التحق بالمدرسة الثانوية.
ووفقا لتصريحاته، كان نصرالله طالبا متفوقا في المدرسة، وكان أداؤه جيدا في الرياضيات والكيمياء والجبر على وجه الخصوص. كان أيضا مهتما بالدين، حيث درس في مسجد محلي تابع لموسى الصدر. هناك بدأ مسيرته السياسية بالانضمام إلى حركة “أمل” وسرعان ما جرى تعيينه رئيسا لفرع الحركة في قريته. في تلك الفترة، التقى نصرالله بمهدي شمران، لتبدأ مسيرته الطويلة في تلقي الإرشاد والتوجيه من القادة الإيرانيين. أظهر نصرالله تفوقا في الحوزة العلمية، مما أدى إلى إرساله إلى النجف، التي كانت أهم مركز تعليمي شيعي في العالم، في عام 1976.
لم تكن النجف آنذاك مركزاً دينياً مهماً فحسب، بل كانت أيضا موقعا رئيسا للنشاط السياسي، حيث كان “حزب الدعوة الإسلامية” الذي تأسس عام 1957 تحت رعاية آية الله محمد باقر الصدر، يدفع بالكثير من رجال الدين نحو الانخراط في السياسة. كانت أبرز صداقة أقامها نصرالله في النجف مع عباس الموسوي، الشاب البقاعي الذي كان قائد فرع يضم الطلاب اللبنانيين هناك.
“البعث” العراقي
في عام 1978، تصاعدت ضغوط حزب “البعث” الحاكم في العراق على نشاطات الدعوة ونشاطات الشيعة. وفي العام نفسه، طرد “البعث” الزعيم الشيعي الإيراني المنفي، آية الله روح الله الخميني، من العراق، وانتهى به المطاف في فرنسا، حيث ساعد في قيادة الثورة ضد الشاه، التي انتهت بالإطاحة به في فبراير/شباط 1979. عاد نصرالله، الذي كان يبلغ من العمر 18 عاما آنذاك، إلى لبنان لينضم إلى حوزة دينية في بعلبك في وادي البقاع، حيث برز أيضا كقائد محلي لحركة “أمل”.
غيرت “الثورة” الإيرانية حياة جميع الشيعة النشطين سياسيا، بما في ذلك حياة حسن نصرالله. في عام 1981، زار إيران والتقى بآية الله الخميني، الذي أعجب بإمكاناته ومنحه تصريحا دينيا لجمع التبرعات.
أفرزت “الثورة” الإيرانية “الحرس الثوري”، وهو ميليشيا لم يشمل اسمها “إيران” وكان هدفها المعلن نشر الرسالة الثورية في المنطقة وخارجها. في عام 1982، ساعد “الحرس الثوري” في هندسة انقسامٍ داخل حركة “أمل”، التي كانت تحت قيادة نبيه بري منذ عام 1980. كان بري، الذي يرتدي بدلة وربطة عنق، غير مهتم بالأيديولوجيا الثورية العابرة للحدود، وكان يفضل دمج الشيعة في النظام السياسي اللبناني. قاد عباس الموسوي الانقسام عن حركة “أمل”، ومع آخرين سرعان ما أسسوا منظمة أصبحت تُعرف باسم “حزب الله”. في السنوات الأولى، كان التنظيم غامضا واستخدم أسماء متعددة. وكما شهد نصرالله لاحقا، فإن المجلس القيادي الأول لـ”الحزب” ضم ثلاثة إيرانيين (بما في ذلك علي أكبر محتشمي، سفير إيران لدى سوريا آنذاك) ورجلين لبنانيين، ما يؤكد أن “الحزب” كان دائما منظمة بقيادة إيرانية.
قبل ظهور “حزب الله” لم يكن أي من اللاعبين الرئيسين في الحرب الأهلية اللبنانية ذا طابع إسلامي. لكن الميليشيا الشيعية غيرت هذا الواقع. في البداية، رحب الشيعة بالاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، إذ كانوا قد ضاقوا ذرعا بوجود “منظمة التحرير الفلسطينية”. إلا أن وحشية الاحتلال الإسرائيلي سرعان ما حولت الشيعة إلى قاعدة دعم لـ”حزب الله”. وسرعان ما ذاع صيت هذه الميليشيا، بقيادة إيران، من خلال مهاجمة القوات الأميركية والدولية، ولا سيما في عام 1983.
رحلة إلى قم
في تلك الفترة، لم يكن نصرالله قد برز بعد كلاعب رئيس في الأحداث السياسية. ففي عام 1989، سافر إلى قم لاستكمال دراساته الدينية في “الجمهورية الإسلامية”. وكان من بين أسباب ذلك الخلافات التي نشأت بينه وبين الزعيم المؤسس لـ”حزب الله” صبحي طفيلي، الذي استبدل لاحقا، في عام 1991، برفيق نصرالله القديم، السيد عباس الموسوي. إلا أن الأمور أخذت منعطفا آخر في فبراير/شباط 1992، عندما استهدفت مروحيات الأباتشي الإسرائيلية الموسوي، مما أدى إلى مقتله مع زوجته وطفله البالغ من العمر خمس سنوات. بعد هذه الحادثة، برز نصرالله كزعيم جديد لـ”الحزب”. ومنذ ذلك الحين، انسحب طفيلي من “حزب الله” واستمر في توجيه انتقادات لاذعة إلى نصرالله و”المرشد الأعلى” الإيراني علي خامنئي.
عقب تعيينه زعيما لـ”حزب الله” قام نصرالله بزيارة إلى طهران، حيث التقى بعدد من المسؤولين الإيرانيين، من بينهم علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني آنذاك. وقد أشاد ولايتي بـ”الانتخاب السريع” لنصرالله، معتبرا إياه “دليلا واضحا على وحدة وتماسك (حزب الله)، وإخفاق محاولات العدو الصهيوني في تفكيك هذه الحركة الثورية”.
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، وبدأ نظام سياسي جديد يتشكل في البلاد. في ظل هذا التغيير، قاد نصرالله “حزب الله” نحو المشاركة في الانتخابات البرلمانية لعام 1992، في خطوة اعتُبرت تحولا كبيرا في مسار “الحزب”، الذي كان قد دعا في بيانه المفتوح الشهير لعام 1985 إلى إقامة “جمهورية إسلامية” على غرار إيران، رغم الطابع المتعدد الطوائف للبنان. وقد حقق “الحزب” نجاحا ملحوظا بفوزه بـ8 مقاعد في تلك الانتخابات.
بعد ذلك، توجه نصرالله إلى إيران، حيث التقى بـ”المرشد الأعلى” علي خامنئي، الذي استقبله بحضور موسى أبو مرزوق، زعيم حركة “حماس” الناشئة، التي كانت على وشك إطلاق حملتها ضد مفاوضات “منظمة التحرير الفلسطينية” مع إسرائيل. ورغم أن مصطلح “محور المقاومة” لم يكن قد ظهر بعد، فإن خامنئي كان يعمل على بناء تحالف إقليمي من الميليشيات، مستفيدا من جهود سابقة قام بها “الحرس الثوري” الإيراني في هذا السياق.
مواجهات وتسويات
في تسعينات القرن العشرين، وتحت قيادة نصرالله، خاض “حزب الله” سلسلة من المواجهات العسكرية مع إسرائيل، كان أبرزها حرب الأيام السبعة عام 1993، وعدوان أبريل/نيسان عام 1996، المعروف إسرائيليا بـ”عملية عناقيد الغضب”. انتهت المواجهة الأخيرة بوقفٍ لإطلاق النار جرى بوساطة الولايات المتحدة. وقد رأى نصرالله في هذا الاتفاق، الذي تضمن اعترافا بـ”حزب الله”، علامة على انتصار “الحزب”.
وفي حديثه مع صحيفة “السفير” البيروتية، صرّح نصرالله قائلا: “نعتقد أننا حققنا هنا نصرا، ونعتزم الحفاظ عليه”. وأشاد بالدعم الذي قدمته كل من سوريا تحت قيادة حافظ الأسد وإيران، في حين لم يتوانَ عن توجيه انتقادات حادة لـ”منظمة التحرير الفلسطينية” وزعيمها ياسر عرفات.
في الفترة نفسها، نفذ “حزب الله” واحدة من أعنف هجماته الإجرامية. ففي يوليو/تموز 1994، قام بتدبير هجوم انتحاري بسيارة مفخخة استهدف مبنى الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية (AMIA) في بوينس آيرس، الأرجنتين. وأسفر الهجوم عن مقتل 85 شخصا، ليصبح الهجوم الإرهابي الأكثر دموية في تاريخ الأرجنتين حتى يومنا هذا. ووفقا لما ذكره ماثيو ليفيت في كتابه “حزب الله: البصمات الدولية لحزب الله اللبناني”. كانت قيادة “حزب الله” مسؤولة بالكامل عن التخطيط للهجوم. وأشار أحد الشهود إلى أن نصرالله قد أصدر أوامر مباشرة لعملاء “الحزب” في الأرجنتين لتقديم “كل ما يلزم” لتنفيذ العملية. بالإضافة إلى ذلك، ساعد شخص على الأقل من السفارة الإيرانية في تنفيذ الهجوم.
ولم يقتصر دور “حزب الله” على هذا الهجوم فقط، بل قدّم الدعم للإيرانيين في اغتيال خصومهم السياسيين في الخارج، من خلال عمليات نُفذت في عدة مدن أوروبية خلال تلك الفترة.
زلزال في إيران
في عام 1997، شهدت إيران زلزالا سياسيا بانتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي. وبينما كان الشعب الإيراني يطالب بالإصلاحات السياسية، كان الكثيرون يسعون لتحسين العلاقات مع الغرب، وهو ما أثار قلق نصرالله من احتمال التخلي عن دعمه. في الوقت نفسه، كان كثير من الإصلاحيين، ومن بينهم علي أكبر محتشمي بور، من المؤيدين القدامى لـ”حزب الله”. وكان نصرالله من أوائل الضيوف الأجانب الذين زاروا خاتمي في طهران. في تلك الفترة، كان نصرالله قد فقد للتو ابنه هادي، البالغ من العمر 18 عاما، في كمين إسرائيلي. أعرب الرئيس خاتمي عن تعازيه، مشيدا بـ”حزب الله” ووصفه بأنه “رمز للمقاومة”.
ومع ذلك، كان نصرالله قلقا من احتمالات أن تميل إيران بقيادة خاتمي نحو تحسين العلاقات مع الغرب. في تلك الفترة، كانت إسرائيل وسوريا تجريان مفاوضات سلام بوساطة ودعم من إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وفي الانتخابات البرلمانية اللبنانية عام 1996، تلقى “حزب الله” ضربة بخسارته مقعدا، بينما تمكن منافسه التقليدي، حركة “أمل” من تعزيز موقعه من خلال الفوز بثلاثة مقاعد.
في تلك الفترة، استخدم نصرالله بعضا من أقسى العبارات ضد الشعب اليهودي، في محاولة لترسيخ دعمه الشعبي. ففي تجمع جماهيري حاشد في بيروت في مايو/أيار 1998، والذي جرى بثه مباشرة عبر قناة “المنار” التابعة لـ”حزب الله”، هاجم نصرالله “اليهود الصهاينة”، واصفا إياهم بأنهم “أحفاد القردة والخنازير”. هذه التصريحات الحادة تتناقض بشكل واضح مع تصريحاته السابقة، حيث أشار في عدة مناسبات إلى الوجود القانوني للجالية اليهودية في إيران كدليل على أن “حزب الله” ليس معاديا للسامية. ففي مقابلة أجراها قبل ذلك بعدة أشهر مع صحيفة لبنانية، أكد نصرالله قائلا: “حربنا ليست ضد اليهودية أو اليهود، بل ضد الصهيونية”.
رياح مواتية
جاءت الأحداث التالية لصالح “حزب الله”. فقد تمكّن المتشددون في إيران من هزيمة الحركة الإصلاحية، وتعثرت جهود السلام بين إسرائيل وسوريا، وكذلك بين إسرائيل والفلسطينيين. وفي عام 2000، انسحبت إسرائيل من آخر الأراضي اللبنانية التي كانت تحتلها، مما منح نصرالله مكانة عظيمة كقائد حقق “النصر” ضد الاحتلال.
وفي العام نفسه، سافر نصرالله إلى طهران، حيث جرى تكريمه بمنحه لقب أستاذ فخري في جامعة “تربية مدرس” بطهران. كما حصل على جائزة من وزير التعليم العالي في حكومة خاتمي، مصطفى معين، الذي عبّر عن فخر إيران بتكريم نصرالله، مشيرا إلى أن هذه الجائزة تأتي بعد أن منحت إيران أول دكتوراه فخرية لنيلسون مانديلا.
لكن شرعية نصرالله كمناهض لإسرائيل بدأت تتآكل تدريجيا. مع دخول القرن الجديد، انزلقت المنطقة في أتون الحروب الطائفية، وخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وفي عام 2005، عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السنّي رفيق الحريري، وُجِّهت أصابع الاتهام نحو “حزب الله”، خاصة أنه لعب دورا واضحا في تعطيل آلية التحقيق التي أنشأتها الأمم المتحدة للتحقيق في الجريمة.
وفي أعقاب الاغتيال، شهد لبنان حركة جماهيرية واسعة عُرفت بانتفاضة الاستقلال، طالبت بخروج القوات السورية من البلاد. وبالفعل، نجحت هذه الانتفاضة في إنهاء عقود من الاحتلال السوري للبنان، مما مثّل خسارة كبيرة لـ”حزب الله” بفقدانه أحد أهم داعميه الخارجيين.
بدأ “حزب الله” حقبة جديدة بعد انسحاب سوريا بتوقيع مذكرة تفاهم مع ميشال عون، زعيم تيار سياسي كبير بين المسيحيين الموارنة في لبنان. أظهر ذلك حنكة نصرالله السياسية، لكنه أوضح أيضا أن “حزب الله” لم يعد “حزب مقاومة” بل أصبح جزءا من النظام السياسي الطائفي في لبنان.
في يوليو 2006، أدى كمين نفذه “حزب الله” ضد دورية حدودية إسرائيلية إلى اندلاع حرب واسعة ألحقت دمارا كبيرا بالتنظيم. ورغم أن إيران و”حزب الله” استغلّا بقاء التنظيم كوسيلة للدعاية، كان نصرالله مدركا أن الكثير من اللبنانيين كانوا مستائين من الثمن الباهظ الذي دفعوه نتيجة مغامرات “الحزب”. وفي مقابلة تلفزيونية بعد الحرب، صرّح نصرالله بأنه لم يكن ليوافق على عملية الكمين لو كان يعلم أن الحرب ستكون نتيجتها.
غضب عربي
كما كانت الدول العربية غاضبة من تصرفات “حزب الله” التي تسببت في إشعال حرب في المنطقة. وأدانت دول عربية وازنة هجوم “حزب الله” على إسرائيل قائلة: “إن المنطقة تُجر إلى مغامرة لا تخدم مصالح العرب”. ووصفت هذا الهجوم بأنه “تصرفات غير مناسبة وغير مسؤولة ستعيد المنطقة بأكملها سنوات إلى الوراء”. هذا الموقف أسس لإجماع عربي أوسع ضد “حزب الله”. ففي عام 2016، صنفت جامعة الدول العربية “حزب الله” كمنظمة إرهابية، ولكن مع تحسن العلاقات في المنطقة ومع إيران، أعلنت الجامعة مؤخرا أنها لم تعد تتبنى هذا التصنيف. وفي المقابل، لا تزال معظم الدول الغربية تصنف “حزب الله” كمنظمة إرهابية، بينما لا تتبنى روسيا والصين هذا الموقف.
بلوغ الذروة
بلغت ذروة الطائفية في “حزب الله” عام 2013، عندما أعلن مشاركته العلنية في الحرب الأهلية السورية دعما لنظام الأسد و”الحرس الثوري” الإيراني. وقد أسهم هذا التدخل في مقتل مئات الآلاف من السوريين، معظمهم من السنّة. هذا الدور لم يغفره له كثيرون، حيث وزع الناس في كثير من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية الحلوى احتفالا بمقتله يوم الجمعة.
وفي لبنان نفسه، أقدم كثير من المحتجين في عام 2019 على إحراق صور نصرالله، وذلك خلال الاحتجاجات التي اندلعت بالتزامن في لبنان والعراق، والتي استهدفت أنظمة تقاسم السلطة الطائفية والأحزاب السياسية المدعومة من إيران في كلا البلدين.
كما أن دفاع نصرالله العلني عن النظام في إيران جعله مكروها من قبل الكثيرين هناك. ففي الأعوام 2009 و2022-2023، هاجم المتظاهرين الإيرانيين ودافع بقوة عن النظام. وفي أحد تصريحاته، قال مستهينا بتراث إيران: “لم يتبقَ شيء اسمه الحضارة الفارسية في إيران اليوم”.
وإذا كان هناك أي شك في ولاء نصرالله لطهران، فقد أزال هذا الشك تماما في عام 2016 عندما صرّح بوضوح: “موازنة (حزب الله) ومصاريفه ومعاشاته وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية في إيران… لدينا المال طالما أن إيران لديها المال”.
وبينما يتطلع “حزب الله” إلى مستقبله، ستظل علاقته بإيران حاضرة بقوة في الأفق. لسنوات، كان هاشم صفي الدين يُعتبر الخليفة الأبرز لنصرالله، على الرغم من أن “الحزب” أكد أنه لم يجر اتخاذ أي قرار نهائي بشأن هذه المسألة. صفي الدين هو ابن خالة نصرالله المباشر، كما أنه والد زوج ابنة قاسم سليماني، زينب. ومع ذلك، فإن هذه الروابط العائلية، رغم تسليط الضوء عليها، لا تعطي بالضرورة مؤشرا واضحا على المسار المستقبلي لـ”الحزب”. ويرى بعض المحللين أنه على عكس نصرالله، الذي كان خطيبا ورجل دين أولا، يتمتع صفي الدين، رغم كونه رجل دين أيضا، بخبرة ميدانية وعملياتية، وقد يعيد “الحزب” إلى موقف أكثر تشددا. وفي المقابل، يعتقد آخرون أن “حزب الله” قد يُجبر في المستقبل القريب على الابتعاد عن دوره كوكيل لإيران، ليتحول إلى قوة أكثر “لبننة” تستجيب بشكل أكبر لاحتياجات جمهورها المحلي.
مهما كان شكل المستقبل، سيظل نصر الله في ذاكرة الناس كرجل استحوذ على دعم جمهور عربي، ووظفه في خدمة دولة أجنبية وأيديولوجيتها الثورية. ومع تدهور الأوضاع في لبنان إلى أسوأ حالاتها منذ عقود، يصعب أن يصدق أحد أن ذلك قد خدم مصلحة بلاده بأي شكل إيجابي.