الحكم التشاركي بين الفلسفة والتطبيق
مقال :صايل بن رباع
الفلسفة نور يهتدي به التاريخ السياسي منذ الأزل، والفلسفة تسعى لاستجلاء طبيعة الإنسان ومجتمعه، سائلةً الأسئلة الكبرى حول العدالة، والسلطة، والخير العام، في رحاب هذا التأمل العميق، وُلدت أفكار شكلت أسس أنظمة الحكم عبر العصور.
“أفلاطون”، في “الجمهورية”، تصور مدينة فاضلة يحكمها الفلاسفة، حيث يمتزج العلم بالحكمة لتحقيق الخير الأسمى، في “السياسة”، قدّم “أرسطو” الدولة ككائن حي يتطور مع الزمن، مميزًا بين الحكم الرشيد والانحرافات التي قد تشوهه.
عبر التاريخ، كانت الأفكار الفلسفية هي المنارة التي أضاءت طريق التطور السياسي، حيث أعادت تشكيل المجتمعات وفق مبادئ العدالة والمساواة، من العقد الاجتماعي “لجان جاك روسو”، الذي وضع السيادة الشعبية في قلب النظرية السياسية، إلى نقد “ماركس” للرأسمالية، كانت الفلسفة دائمًا تطرح البدائل وتقترح الرؤى الأكثر عدلًا وتناغمًا مع طبيعة الإنسان.
هل يمكن تطبيق “الحكم التشاركي” كإستجابة فلسفية للعصر الرقمي؟ في العصر الرقمي، الذي شهد تطورًا تكنولوجيًا غير مسبوق، تبدوا نظرية “الحكم التشاركي” كامتداد عصري لفلسفات الحكم القديمة، الحكم التشاركي ليس مجرد نظام سياسي، بل هو تطور فكري يعيد النظر في علاقة الفرد بالدولة، ويفتح آفاقًا جديدة لدمج التكنولوجيا في عملية صنع القرار.
إنه نموذج يتجاوز الأنظمة التقليدية، حيث يصبح كل فرد في المجتمع مشاركًا فعليًا في رسم السياسات وصياغة القوانين، والتعبير عن مدى الرضى عن طريقة تطبيق السياسات والقوانين والأداء العام والخاص، عبر تقنيات حديثة تضمن الشفافية والعدالة.. هنا، نجد عودة إلى الفلسفة بوصفها مرجعًا أخلاقيًا وفكريًا، يستعين بالتكنولوجيا كوسيلة لتحقيق غايات أرسطية وأفلاطونية في حكم رشيد وعادل.
لتطبيق “الحكم التشاركي” تتظافر أدوات العصر ورؤى الفلاسفة، في تطبيق هذا النموذج، تتداخل مفاهيم الفلسفة مع أدوات العصر الرقمي.. تصوّر، مثلًا، استخدام البلوكتشين كأداة لتفعيل التصويت المباشر وحمايته من التزوير، حيث تتحقق الشفافية والنزاهة، فتتجسد رؤية “أفلاطون” في الحقيقة والعدالة.
أما منصات النقاش العام، فهي امتداد “للأغورا” اليونانية، حيث يتبادل المواطنون الأفكار ويتناقشون بحرية، ويشاركون في بناء سياسات الحكم التي تساهم في تقديم حياة كريمة بوسط من الرضى الشعبي.
وللتقييم الاجتماعي والاقتصادي وتقييم الأداء العام والخاص دور مركزي في الحكم التشاركي، مستوحى من فلسفة “أرسطو”، حيث تعتمد الحكومة على معايير موضوعية لتقييم مساهمة الأفراد، مكافئة الفضيلة والسعي إلى الخير.
فضائل “الحكم التشاركي”: رحلة فلسفية نحو الكمال السياسي
– الديمقراطية الحقيقية: يتجسد حلم “روسو” في السيادة الشعبية، حيث يتاح لكل فرد فرصة حقيقية ليكون صانعًا للقرار.
– العدالة الاجتماعية: عند “أفلاطون”، ينطلق الحكم التشاركي من فكرة تحقيق الانسجام في المجتمع، وتوزيع الثروة والفرص بعدالة.
الشفافية والمساءلة: استنادًا إلى فلسفة “كانت” الأخلاقية، يفرض الحكم التشاركي على الجميع – حكامًا ومحكومين – التزامًا بالشفافية والمسؤولية المطلقة.
ما هي التحديات الفلسفية في مسيرة “الحكم التشاركي”؟، ومع كل ما يقدمه الحكم التشاركي من وعود، تظل هناك تحديات فلسفية وواقعية لا بد من مواجهتها:
– اللامساواة الرقمية: كما حذّر “ماركس” من الفجوات الطبقية، يهدد الحكم التشاركي بخلق فجوة جديدة بين من يمتلكون التكنولوجيا ومن يفتقرون إليها.
– الخصوصية الفردية: كما تساءل “هيوم” عن طبيعة الهوية، يطرح جمع البيانات الشامل تساؤلات حول حدود الخصوصية الفردية وحق الفرد في حماية ذاته.
التنفيذ العملي: وكما كان “أرسطو” يحذر من التطبيق العملي للأفكار الفلسفية، فإن الحكم التشاركي يواجه تحديات في البنية التحتية والثقافة السياسية قد تعيق تحققه.
ترى كيف سيكون موقف الحكومات؟ بين مقاومة التغيير والرغبة في الإصلاح، قد تنظر الحكومات إلى “الحكم التشاركي” بنظرة حذرة، خوفًا من فقدان السيطرة على السلطة. لكن، في المقابل، يمكن أن ترى فيه وسيلة لتعزيز شرعيتها من خلال تطبيق مبادئ العدالة التي طالما دعت إليها الفلسفة. وفي هذا التوازن بين الفلسفة والسياسة، قد نجد طريقًا جديدًا لتحقيق الحكم العادل.
“الحكم التشاركي” يعد بتحقيق العدالة والتنمية: إذا نجحنا في تطبيق “الحكم التشاركي” بروح فلسفية تستلهم أفكار “أفلاطون” و”أرسطو”، فإنه يمكن أن يكون أداة قوية لتحقيق العدالة والتنمية.
رؤية “أفلاطون” عن المدينة الفاضلة يمكن أن تجد طريقها إلى الواقع، إذا ما استُخدمت التكنولوجيا لتحقيق الغايات الأخلاقية. وفي هذا النظام، يصبح كل فرد شريكًا في تحقيق الخير العام، وتُوزع الثروات والفرص بعدالة، في مجتمع أكثر انسجامًا وازدهارًا.
تظل الفلسفة هي النور الذي يُضيء طريقنا نحو الحكم العادل. “الحكم التشاركي” بكل ما تحمله الجملة من حداثة لكنه ليس إلا تجسيدًا لفكرة فلسفية قديمة، تتجاوز حدود الزمان والمكان، لتتحقق في عصرنا بفضل التكنولوجيا. ولكن، كما هو الحال دائمًا، يبقى التحدي الأكبر في تطبيق هذه الأفكار وتحقيق التوازن بين المبادئ الفلسفية والواقع العملي. إننا نقف على أعتاب عصر جديد، يحمل في طياته وعودًا كبيرة.
* 15 أغسطس 2024م