القصة التي لم ينساها الرئيس العراقي صدام حسين

القصة التي لم ينساها الرئيس العراقي صدام حسين وظلت جاثمة على صدره طيلة حياته ولربما كانت من اسباب مساندته لعفاش في حرب ١٩٩٤م ضد الجنوب..*

*البروفسور العراقي توفيق رشدي..*

أشهر عملية أغتيال بشعة شهدتها –عدن- في ثمانينيات القرن الماضي
ترويها الدكتورة العراقية منيرة أميد..

توجه الى أقصى جنوب الجزيرة العربية، بينما بقى أبناءه بصحبة والدتهم.

وصل عدن منتصف سبعينيات القرن الماضي ليعمل أستاذاً في جامعتها..

أحبه طلبته وزملائه وكل جيرانه، لتواضعه الجم، ولامكانياته العلمية وثقافته الواسعة..

كان يهتم وبشكل استثنائي بتناول غذاء صحي (وكان طباخاً ماهراً) يمارس الرياضة وخاصة المشي، وكان لايشرب الماء الا بعد غليه وتبريده في “فريز” الثلاجة، وقيل انه وجد بعد وفاته زجاجة ماء مهشمة في ثلاجته نتيجة تجمد الماء فيها..

سكن في أحد أحياء عدن الحديثة كان يطلق عليه حي ” المنصورة”..

كان حي المنصورة يتكون من عدداً من العمارات السكنية ذو طابقين بالاضافة الى الطابق الارضي، وتحتوي على شقق مبنية على الطراز الاوربي المعمول به في كثير من بلدان العالم الراقية..

كانت معظم تلك الشقق تعود ملكيتها الى وزارة التربية، وكانت مخصصة لسكن منتسبيها، وفق النظام الذي كان معمولاً به في اليمن الجنوبي، ان أي مؤسسة تعتبر مسؤولة عن توفير سكن للعاملين فيها..

لذا تلاحظ وجود سكان من مختلف الجنسيات في ذلك الحي، وخاصة من الجنسيات العربية من مصر، سوريا، فلسطين، السودان واخيراً العراقيين. وهناك يسكن امن موظفي الوزارة المذكورة..
اي ان معظم الساكنين هم من المدرسين في الثانويات والجامعات في اليمن الجنوبي، والتي كانت تتعاقد معهم دولة الكويت وتدفع رواتبهم كجزء من معونة لهذه الدولة العربية الفتية، وفق عقود عمل توقعها وزارة التربية مع من تحتاجهم من أساتذة ومدرسين بمختلف التخصصات للعمل في الجامعات الجنوبية ومدارسها..

بينما اتفقت حكومة العراق مع حكومة اليمن الجنوبي، على تعيين العراقيين بعقود محلية أسوة بمواطنيها حتى تتمكن الدولة من استقبال أكبر عدد منهم!..

سكن أحدى تلك الشقق في الدور الثاني المواجهة لمساحة واسعة، خطط لها أن تكون متنزهاً عاماً لذا كانت مسرحاً يتجمع فيه الاف الغربان؟؟؟..

تلك الغربان حسب ما علمنا ان الجيش الانكليزي احظرها من الهند بهدف التخلص من الثعابين والعقارب التي كانت تنتشر بكثرة هناك..

كان الشهيد طيب المعشر، يجيد الفكاهه ولديه سرعة بديهية غريبة مما كانت تسبب له مشاكل وخاصة مع زميله وصديقه من أيام وجوده في الاتحاد السوفيتي، الذي كان هو الاخر قد انهى دراسة الدكتوراه في نفس التخصص في جامعة طشقند، زميله كردي من أهالي كركوك، ويسكنان في نفس العمارة ويعملان في الكلية ذاتها..

لذلك لم يكن غريباً ان تسمع اصواتهما ترتفع في مشادة لتنتهي كأن شيئاً لم يكن..

في احدى ليالي مطلع حزيران 1979، نصبوا له كميناً وهم يعرفون كل خطواته..

كان قد غادر شقته لممارسة رياضة المشي، فقرروا انتظاره بالقرب من العمارة التي يسكن فيها..

كان البروفسور رشدي شخص شديد الحذر، وكان لا يفتح باب شقته حتى يتأكد من هوية الطارق، لذا فضلوا ان ينتظروه بالقرب من منزله..

كان الظلام لم يحل بالكامل بعد. عندما وصل البريفسور رشدي، فنزل أحدهم من السيارة ليكلمه ويخبره أن الموافقة على طلبه قد وصلت منذ فترة وأنهم حاولوا الاتصال به عدة مرات ولكنهم لم يجدوه، وطلبوا توقيعه على ورقة معينة..

عندها قال لهم انه لا يستطيع قراءة الورقة بسبب الظلام وانه لا يستطيع ان يوقع عليها دون أن يعرف محتواها..

اقترحوا عليه أن يدخل السيارة ويمكنه قراءتها على ضوء السيارة الموجود داخلها، ولكنه رفض، وعندها حاولوا ادخاله بالقوة وأشهروا عليه المسدس، قاومهم وتمكن من الافلات منهم، وشرع يصرخ “السفارة العراقية تريد قتلي”..

في ذلك الاثناء افرغوا رصاص مسدسهم في جسده ثم صعدوا سيارتهم ولاذوا بالفرار، على طريق الجسر البحري حتى وصلوا مبنى السفارة العراقية واختبأوا داخلها..

ولكن شاءت الأقدار ان لا تموت الجريمة، كانت هناك فتاة عدنية بالقرب من مسرح الجريمة واقفة في شرفة منزلها وسمعت كل شيئ ولم يلحظها القتلة..

سارعت الفتاة إلى الإتصال بالشرطة واخبرتهم بكل شيء..

في نفس الوقت كانت دوريات الأمن في منطقة خورمكسر بعدن قد لاحظت وجود سيارة تسير بسرعة جنونية وبدون اضائة دخلت المنطقة، ولم تتوقف أمام الإشارة الضوئية التي وجهتها الدورية نحوها لذلك اضطر أفراد الدورية الى ملاحقتها، حتى دخلت مبنى السفارة العراقية بخورمكسر..

قام أفراد الدورية بإبلاغ السلطات العليا بذلك..

نزل خبر أغتيال البروفسور توفيق رشدي -الذي عثر عليه غارقاً في دمه، وقد فارق الحياة على بعد خطوات من بيته- كالصاعقة..

استنفرت الدولة كل قواتها، واصيب الجميع بالذهول، كانت اول جريمة من هذا النوع تحدث في هذا البلد المسالم الهادئ والذي كان يعج بأعضاء من كل حركات التحرر العربية، مما اوجب على الحكومة أن تأخذ موقفاً حازماً حتى لا يفكر اي طرف آخر للجوء الى نفس ذلك التصرف ضد خصومهم السياسيين، كما كانوا يشعرون بأهانة كبيرة وبجرح في كرامتهم..

كان القرار قد اتخذ:

“ان لا تمر الجريمة بدون عقاب”..

ويجب جلب الجناة الى المحكمة..

وبما ان القتلة من الدبلوماسيين وقد أتخذوا من السفارة ملجأ لهم، لذا تم دعوة كافة أعضاء السلك الدبلوماسي الموجود في عدن ومن ضمنهم السفير العراقي الى وزارة خارجية اليمن الجنوبي..

في نفس الوقت حاصرت القوات الجنوبية مبنى السفارة العراقية وعندما رفض الجناة الخروج من مبنى السفارة، اطلقت إحدى الدبابات قذيفة واحدة نحو مبنى السفارة مما اضطر المطلوبون الى الخروج ورفع رايات بيضاء معلنين عن تسليم انفسهم..

في بغداد كان قد تم قطع الماء والكهرباء ووسائل الاتصال عن سفارة اليمن الجنوبية بشكل كامل منذ اليوم الاول للاحداث، ثم امطروا مبنى السفارة بوابل من النيران..

أعلن عن يوم التشييع وفي منطقة سكن البروفسور الشهيد رشدي، كنت اشاهد الحشود تتدفق على المنطقة من كافة ابناء شعب اليمن الجنوبي من نساء واطفال وشيوخ وشباب، وطلبة المدارس والكليات، موظفين وعمال. بالإضافة إلى معظم القيادات الحكومية والمنظمات العاملة في عدن وأعضاء السلك الدبلوماسي الاجنبي والعربي وجميع الجاليات..

كانت عدن قد خرجت عن بكرة أبيها في مشهد لم تشهده في حياتها، فالجميع خائف لما حدث..

سارت الجموع تتقدمهم القيادة الجنوبية، حيث شيعوا الجثمان الى مثواه الاخير في مقبرة الشيخ عثمان، مروراً بالاحياء والاسواق التي كانت تقفل ابوابها لتلتحق بالموكب وهي تهتف:

“يا بغداد ثوري ثوري خلي بلعث يلحق نوري”.

فوصلت المقبرة مع الغروب، وكانت شمس المغيب تصبغ السماء بحمرتها والحشود تهتف:

“سنمضي سنمضي الى ما نريد وطن حر وشعب سعيد”..

كانت الدموع تنهمر من عيون الرجال والنساء على السواء، ولا أعتقد ان تلك اللحظات المهيبة ستنسى من ذاكرة من شهدها..

بدأت مجريات المحاكمة العلنية والتي كانت تبث من قاعة المحكمة على الهواء مباشرةً، وشخوصها البارزة على ما اتذكرهم القنصل العراقي عبد الرضا سعيد وكان من أهالي بعقوبة، وسمير بشير من أهالي الموصل ولا أذكر بالضبط ان كان مستشاراً او ملحقاً في السفارة وحارس السفارة الذي لم أعد أتذكر أسمه..

تلك كانت محاكمة حقيقية كشفت كل شي امام العالم على الهواء مباشرة
في دولة العدل والقانون في اليمن الجنوبية..

في النهاية، ليس لنا سوى أن نذكر بأحترام أعضاء حكومة اليمن الديمقراطية الشعبية الجنوبية الميتين والاحياء منهم، الذين رفضوا المساومة على كرامتهم ومبادئهم ،رغم أن الحكومة العراقية كانت تقدم لهم معونة مادية سخية قطعتها على أثر ذلك الموقف الشجاع، على الرغم من حاجتهم الماسة للدعم..

الف تحية اجلال للشعب الجنوبي الذي وقف مع العراقيين في محنتهم…

مطاعم ومطابخ الطويل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى