حينما أحرق الإرهابيون مكتبتي تذكرت محنة ابن رشد
كتب: د. قاسم المحبشي
أحب الكتابة أكثر من الشفاهية والمحادثة الكلامية. إذ بدأت الكتابة منذ كنت طالبا في الإعدادية.
كنت أكتب خواطر ويوميات مراهقة عن معنى الحياة والخير والشر والناس والعالم وفي الثانوية كتبت في المجلة الحائطية وفي الخدمة العسكرية كتبت في مجلة المعسكر الحائطية مقالًا عن أهمية الثقافة العامة للمجندين.
وفي الجامعة انضممت إلى الجمعية الأدبية للشباب والطلاب في سنة ثانية فلسفةً وكتبت مقالات في المجلة الحائطية للكلية وفي سنة رابعة بكالوريوس بدأت بنشر المقالات الصحفية بالصحف المحلية الصادر في مدينة عدن العاصمة.
كان أولها مقالًا نشرته في صحيفة صوت العمال بعنوان (قتل نفسه كي لا يكون خائنا) مستوحى من رواية للأديب التركي ناظم حكمت.. وبعدها نشرت في صحيفة الثوري الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي اليمني مقالًا عن ماركس والدين، وكانت صحيفة 14 أكتوبر العدنية هي مدرستي الأولى في الكتابة الصحفية، إذ نشرت فيها مقالات فكرية وثقافية واجتماعية وتربوية ونقدية وحوارية، ثم صحيفة التجمع والأيام والجمهورية والثورة والنداء وعدن الغد والصباح والحق والأمناء وغيرها.. كان ذلك منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. وحينما سافرت للعراق لغرض الدراسة العليا كتبت في الصحافة العراقية ومنها (الف باء والرأي والزوراء والوطني والزمان والمدى)، وحينما ذهبت إلى المغرب العربي لغرض التفرغ العلمي نشرت بعض المقالات في الصحافة المغربية. وفي المملكة العربية السعودية نشرت في الشرق الأوسط وصحيفة الشرق مقالات فلسفية وسياسية وثقافية (أكثر من ستين مقالًا)، ومن المواقف الطريفة مع رئيس تحرير صحيفة الشرق السعودية الأستاذ محمد الشمري أنه كان يتصل بي بشأن بعض المقالات الفلسفية ويطلب مني تخفيض السقف! كان السقف المتاح للقول والتفكير والكتابة حينها -أقصد قبل الانفتاح الراهن – لا يتجاوز اللغة التقليدية وكنت أتحايل بتسريب الأفكار الفلسفية بلغة أدبية شديدة الرمزية والغموض (لغة الطير كما تقول العرب) ولا يفهني الا الطير الذي آكل من قمحي! أقصد من أحب الفلسفة وفهمها تحديدًا.
كتبت عن فلسفة النهضة وعن التفكير العلمي، وعن أهمية التفكير النقدي وعن التعليم العقلاني بوصفه سبيلًا لمناهضة التطرف والإرهاب وعن فلسفة التاريخ والحضارة، وعن فلسفة العلم وعن الفلسفة النسوية وعن مخاطر العنف ضد المرأة، وعن صدمة المستقبل وأشياء كثيرة.. والحق أقول أنني عرفت الدكتور عبدالله المطيري رئيس الجمعية الفلسفية السعودية التي تأسست موخرًا في الرياض عرفته عبر كتابات إذ ربما كان الأكاديمي السعودي الوحيد الذي يكتب عن الفلسفة بالف ولام التعريف الكبيرين.
وفي مصر نشرت مقالات عديدة في أخبار المساء وصدى البلد وتحيا مصر ومجلة الفكر المعاصر وبوابة دار المعارف وغيرها وبعد الإنترنت أحببت النشر في المواقع الالكترونية الحوار المتمدن وصحيفة الثقافة العالمية وخيوط، والمدينة اليمنية، وموقع ضياء للمؤتمرات، وكتبت في المجلات العلمية والثقافية منها؛ مجلة الكاتب العربي ومجلة الفكر المعاصر الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ومجلة مثاقفات اللندنية ومجلة الجديد اللندنية ومجلة أنثروبولوجيا الجزائرية ومجلة معهد البحوث والدراسات العربية ومجلة الثقافة العراقية ومجلة الجمعية الفلسفية المصرية ومجلة جامعة المستنصرية ومجلة الحكمة اليمنية ومجلة حضرموت الثقافية ومجلة المنار العدنية ومجلة التواصل الأكاديمية ومجلة بيت الحكمة الفلسفية ومجلة صوت الجيل الاردنية ومجلة اطاريح العراقية ومجلة سبأ للدراسات التاريخية ومجلة حولية الآداب ومجلة الاصباح للدراسات الحضارية بفرنسا، ومجلة أوراق فلسفية المصرية ومجلة على باب مصر، ومجلة إمزاد الأمازيغية وصحيفة الجمهورية الجزائرية وصحيفة الوطني التونسية وصحيفة بيان المصرية وغيرها.
وأتذكر أنني حينما كنت في عدن عملت تفتيش ونبش وفلترة في أرشيفي الصحفي الورقي التقليدي لمدة عشرين يومًا وبتعاون فريق من الشباب في كلية الأداب بإشراف مصطفى الأزوري تمخضت المرحلة الأولى بإنجاز هذه الثامنة الإضبارات الصحفية (أربعة من الحجم الكبير وأربعة من الحجم الصغير) من قصاصات المقالات التي كتبتها ونشرتها والمقابلات التي جرت معي في أوقات متفرقة من السنوات المنصرمة منذ عام 1988 حتى تمكني من التدوين الالكتروني ، على أمل إن تتاح لي الفرصة في إعادة طبعها بالورود نظام الأوفست في قادم الأيام حتى يسهل حفظها في مدونتي الثقافية. والسؤال هو كيف يمكن تحويلها الى نسخة الكترونية ؟!
من المؤكد أن الأمر يحتاج إلى المزيد من الجهد والتعب. شكرًا للآنسة منى باصمد التي تعاونت مع فريق عملها الرائع في مكتبة كلية الآداب بإشرف الشاب النشط مصطفى الأزوري لإنجاز هذه الفهرسة الأولية للمقالات والمقابلات الصحفية التي أستطعت الاحتفاظ بها في أرشيفي الورقي الذي نجي من الاحتراق والضياع مرتين الأول في حرب صيف 1994 الغاشمة إذ احتلت الميلشيات الأرهابية منزلي التي دخلت عدن مع القوات الفاتحة بعد فتوى التكفير الزندانية الشهير سبعة من يطلقون على انفسهم صفة المجاهدين احتلوا منزلي ومنزل صالح أخي الكائنين في حي السعادة بخورمكسر محافظة عدن، القرية الروسية لمدة عامين ولم يخرجوا إلا عبر متابعات ومحاكمات مضنية ولكنهم خرجوا بعد أن احرقوا كل كتبي التي جمعتها على مدى عقدين من الزمن حوالي الف كتاب تم إحراقها في حوش المنزل، كما أخبرني أحد جيراني الذي كان يشاهد الواقعة من نافذة منزله إذ جمع الإرهابيون الكتب التي وجدوها في مكتبتي في سوال كبير ورموها في حوش المنزل واضرموا فيها النار وهو يرددون (الله أكبر ..الله أكبر ..الله أكبر) بطريقة هستيرية متوحشة.
طبعا كانت بعض الكتب في الفلسفة الماركسية فضلا عن احراق البومات صور العائلة ومنها صوري مع الرئيس علي سالم البيض في عيد العلم حينما تم تكريمي بميدالية التفوق العلمي عام 1988م واتذكر أن قائد شرطة خورمكسر حينها كان العقيد محمد جبران شنظور. ذهب اليهم بطقم شرطة لغرض إقناعهم بتسليم المنزل فكان ردهم أن صاحب المنزل – قصدهم أنا-لديه مكتبة شيوعية كافرة ونحن نبحث عنه واخرجوا له بعض الكتب ومنها كتاب رأس المال لكارل ماركس وكتاب لينين خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف وكتاب بيلخانون العنف في التاريخ وكتاب الوجود والزمان والوجود والعدم وغيرها.
اخرجوها واحرقوها في حوش المنزل وهم مدججون بالسلاح واللحي المرسلة. وقالوا نحن نبحث عن هذا المارق الذين لازال يحتفظ بهذه الكتب الملعونة. فعاد قائد الشرطة بخفي حنين. وبعد عام من المتابعة والبحث عن أميرهم عبر وساطات وصهارات وجعالات واثبات ملكية المنزل اقتنعوا بالخروج ولكنهم اخدوا كل محتويات المنزل بما في ذلك النوافذ والأبواب حفاظة بحسب قولهم. تلك الواقعة في قلب مدينة عدن الساحلية جعلتي اشعر بحالة الغربة والاغتراب والضياع والخوف والخطر وتلك المشاعر هي التي دفعتني للبحث في الفلسفة الوجودية بإشراف الاستاذ أحمد نسيم برقاوي إذ كانت رسالتي بعنوان: الوجود والماهية في فلسفة جان بول سارتر. ناقشتها بعد عامين من الاجتياح في ظروف بالغة القسوة والاضطراب والتكتم. كانت ولازالت لحظة وجودية بامتياز. بعد عامين من المتابعات والمحاكمات والوساطات والرشاوي تمكنت من العودة إلى بيتي الخشبي رقم 19 في كورنيش ساحل أبين ولكنهم لم يكتفوا بحرق المكتبة بل اخدوا كل محتويات المنزل وأثاثه بما في ذلك المكيفات والمراوح والنوافذ والأبواب حفاظّة بحسب قولهم! بدأت اعيد بناءه المكتبة من جديد بعد أن مسحت الصفحة.
فلم تمضي الا بضع سنوات ثم عادت الاضطربات في المدينة ضد قوى الاحتلال الداخلي في حركة المقاومة السلمية الجنوبية والحراك الجنوبي الذي وجهته سلطات الاحتلال الداخلي بالنار والحديد وكانت مدينتنا خورمكسر هي ساحة الاشتباكات الدامية بين الأمن المركزي والمقاومين المدنيين اذ أغتيل الشهيد أحمد الدرويش بجانب منزلنا عام 2010م وبعد عام من استشهاده “قتل شاب في العشرينيات ظهر اليوم الاثنين في منطقة خور مكسر بمدينة عدن جنوب اليمن برصاص عشوائي أطلقته قوات الشرطة على محتجين.
وقال سكان في حي السعادة بخور مكسر لـ”المصدر أونلاين” إن الشاب “صالح يوسف” (24 عاماً) قتل أثناء إطلاق قوات شرطة النجدة الرصاص الحي بشكل عشوائي لفتح طريق قطعه محتجون للمطالبة بتسليم المتهمين بقتل الشاب أحمد درويش”. وقد وصلت رصاصات الأمن المركزي وقوات النجدة العفاشية إلى بلكونة منزلي أكثر من مرة واتذكر أن تلك المواجهات الدامية استمرت حتى حرب الصرخة والعاصفة التي دمرت كل شيء في عموم اليمن.
وتلك كانت المرة الثانية التي نهبت فيها مكتبتي والحرب الأخيرة التي تناسلت مصائب كبيرة على اليمن واليمنيين ولازالت مستمرة حتى الآن. وهكذا تتلاقي الأطراف دائما حينما يكون الفكر والحرية هو المستهدف.
فكما أحرقت حرب صيف 94م مكتبتي المسالمة، فعلت الحرب الاخيرة وأحرقت ما تم جمعه منذ عام 1998 بعد تعييني مدرساً في جامعة عدن، إذ تمكنت على مدى سبعة أعوام من اعادة تكوين مكتبتي من الصفر بعد احراقها في حرب التكفير عام 1994 بالتكبير، ومؤخرا يتم حرق ما جمعتها من كتب جديدة بشق النفس واشتريتها من عرق جبيني، بالصرخة، وقد جرت تلك الغزوة الثانية وانا خارج البلد، إذ كنت مدعوا للمشاركة بأعمال (العلوم الإنسانية أكاديمياً ومهنياً: رؤى استشرافيّة) الذي انعقد في رحاب كلية الآداب في 6_ 7 ابريل الماضي وكان لي شرف المشاركة في اعماله بورقة بحثية بعنوان: العلوم الإنسانية وسوسيولوجيا العلم المعاصر.
اتذكر أنني بقيت هناك في الرياض بعد إن غادرها جميع الزملاء والزميلات المشاركين في المؤتمر من معظم البلدان العربية جميعهم عادوا إلى أوطانهم ودولهم وأهلهم وذويهم في مختلف الاتجاهات إلا أنا بقيت هناك في الرياض الوارفة الإسمنت والفنادق! ولكني بعيدا عن أهلي وبلدي بسبب الحرب الغاشمة في عدن الحبيبة أمسي وأصبح أغرد بهذه الكلمات:
يا طير يا ضاوي إلى عشك
قلي متى با ضوي على عشي
كم قلت للركاب من قبلك
باسير شلوني قدا خللي
حتى لقوني طرد في خيشه
قلبي من الفرقا آه كما الريشة
ما علينا من تلك الانفعالات الرومانسية وكل ما يهمني هنا هو كيف يمكنني جمع ما تبقى من حياتي التي أنهكتها الحروب وجمع ما يمكنني جمعه من قصاصات يستحيل الحصول عليها بعد اليوم ! ولا عزاء طالما والدولة والشعب والوطن والبلد كلها قد ضاعت في مهب العاصفة! ولم يعد لنا منها سوى تلك الذكريات التي ستروي للأجيال القادمة بأننا كنا نحلم بعكس ما جرى، ولكن أتت العواصف بغير ما كانت تشتهي الباخرة !.
وكلما تذكرت مكتبتي التي احرقت مرتين الأول في حرب تكفيرية عام 1994م والثانية في الحرب الأخيرة كلما تذكرت محنة فيلسوف الاندلس ابن رشد نلاحظ أوجه الشبه بين الحاليين: ” كان ابن رشد ينظر إلى الكتب تحترق واحداً إثر الآخر ولا يحرك ساكنا، بل يقابل كل ذلك بصبر شديد، وفيما هو يتأمل تلك المشهدية القاسية بعمق يذهب فيه إلى مدى تأثيرها على المستقبل، كان أحد تلاميذه بالقرب منه يبكي وينتحب، لكن ابن رشد كان يربت على ظهر تلميذه الوفي ويخفف من هلعه وحزنه بقوله: «إذ كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكى كتبي المحروقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير” فما زال الحال هو الحال يا ابا وليد المستنير وكما عبر الشاعر الضرير عبدالله البردوني عن تلك الحالة بقوله:
لماذا استشاط زحامُ الرماد؟
تذكّرَ أعراقَهُ فاضطربْ
لأن “أبا لهبٍ” لم يمُتْ
وكلّ الذي ماتَ ضوءُ اللهبْ
على كل حال هذه الإضبارات تحتوي مئات المقالات والدراسات الفكرية والثقافية والنقدية والخواطر الشعرية المنشورة في الصحف المحلية والعربية العالمية بدءاً من صحيفة ١٤اكتوبر والأيام والطريق والتجمع والصباح وعدن الغد والثوري والوطني والتحديث والحريّة والقضية والجمهورية والثورة والنداء والوسط وعدن اليوم والجمهورية الثقافية، و 26 سبتمبر والحق والجنوبية والصحف العراقية : الزوراء والرأية والمدى والصباح والوطن والزمان اللندنية وغيرها ذلك من الصحف التي لم أعد اتذكر أسماءها وسوف تكون المرحلة الثانية من الجمع والأرشفة للدراسات المنشورة في الدوريات والمجلات العلمية اليمنية والعربية وهي أخف وطئة من الأرشيف الصحفي، اما المرحلة الثالثة والآخير فسوف تكرس لفهرسة الموضوعات المنشورة في الشبكة العنكبوتية وهي كما اعتقد أسهل بما لا يقاس بالجهد والتعب المبذول في فهرسة الأرشيف الصحفي الورقي التقليدي. وهذا هو ما جعلني شديد الإعجاب والامتنان بمخترع الانترنت الانجليزي السير تيم بيرنرز لي المولود عام 1955-م أطال الله عمره وجزاه عنا كل خير.