خمس عشرة ساعة بدون رئيس 

كتب/ محمد فضل مندوق:

تعتبر إيران أحد أركان النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وهي دولة مؤثرة تلعب دوراً مهماً في العديد من الملفات والقضايا الإقليمية، وبغض النظر عن مدى إيجابية أو سلبية هذا الدور، إلا أنه لا يمكن تجاهله. وبسبب أهمية هذا الدور،  يمكن القول بأن حادثة مقتل الرئيس الإيراني هي حادثة مهمة يجب تحليلها بتركيز. هذه المقالة تحاول تقديم تحليل معمق لهذه الحادثة ومدى تأثيرها على السياسة الخارجية الإيرانية. 

وقبل الخوض في صلب الموضوع، لابد في البداية من تعريف مفهوم القوى الإقليمية. في حقيقة الأمر هناك العديد من الاقترابات التي درست مفهوم القوة الإقليمية وحدد صفاتها وسلوكها، ولكن بشكل عام يمكن القول بأن القوى الإقليمية هي تلك الدول التي تتفوق مواردها ومقدراتها النسبية بشكل ملحوظ على باقي الدول التي تقع في نفس النظام الإقليمي الواحد. فالقوى الإقليمية تمتلك تعداداً سكانياً كبيراً وناتجها المحلي الإجمالي ضخم مقارنة بباقي الدول الإقليمية، وهي تمتلك ثقلاً عسكرياً كبيراً تستطيع من خلاله لعب دور ملموس في مجالها الإقليمي، وفي بعض الأحيان قد تمتلك هذه الدول أسلحة نووية. هذه الإمكانية المادية الضخمة تعزز نزعة الهيمنة لدى هذه الدول، فالقوى الإقليمية تحاول أن تفرض هيمنتها على مجالها الإقليمي وقد تدخل في صراع مع بعضها البعض من أجل فرض السيطرة. هذا الصراع ليس بالضرورة صراع مادي مباشر، بل في الغالب هو صراع معنوي إدراكي تحاول فيه كل قوة تعزيز صورتها كقوة إقليمية في أذهان باقي الدول، فالقوى الإقليمية الناجحة هي تلك القوى التي تستطيع أن تجعل الآخرين  يتصرفوا معها كقوة إقليمية ولها القدرة على صيانة صورتها كقوة إقليمية. 

وبعد السياق النظري السابق، يأتي هنا دور تحليل حادثة سقوط الطائرة، وذلك من خلال مناقشة الملابسات وتداعياتها المستقبلية. أما فيما يخص الملابسات، في يمكن القول بإن هناك احتمالين لا ثالث لهما، إما حادث اغتيال وإما حادث عرضي. 

سيناريوهات مختلفة:

الاحتمال الأول:

يقوم الاحتمال الأول على عدة مؤشرات لا يمكن تجاهلها. أحد هذه المؤشرات هو طبيعة السياق الإقليمي وزمن وقوع الحادثة. فقد سبق حادثة الطائرة تصعيد إسرائيلي إيراني خطير على أثر قصف القنصلية الإيرانية في سوريا؛ أمطرت إيران إسرائيل بمئات الصواريخ والطائرات المسيرة، ورغم اعتراض العديد من هذه الصواريخ والمسيرات إلا أن العديد منها نجح في الوصول، وبالتالي استطاعت إيران توصيل رسالة مفادها: موازنة الردع قد تغيرت، فالهجوم الإيراني أضعف صورة إسرائيل كدولة إقليمية تمتلك زمام مبادرة الردع في منطقة الشرق الأوسط.

أما الرد الإسرائيلي فقد جاء بارداً ، فقصف هدف داخل القاعدة الجوية في أصفهان لا يحقق شروط معادلة إستراتيجية الردع. فالردع يقوم على إخافة العدو وإقناعه بإمكانية تدميره إن هو شن أي عمل عدواني مستقبلاً. وهذا ما لم تحققه إسرائيل في هجومها السابق، الأمر الذي يفتح المجال للاعتقاد بأن الهجوم على أصفهان كان خدعة هدفها إعطاء القيادة الإسرائيلية الوقت للتخطيط لعمل آخر كبير، هذا العمل قد تجلى باغتيال الرئيس الإيراني، الذي قد لا يحقق فائدة مادية ملموسة ولكنه يحقق هدف معنوي مهم وهو إظهار إسرائيل قوة قادرة تستطيع الوصول إلى أي مكان داخل إيران وضربها بدون رحمة. 

وما يعزز هذه الفرضية أيضاً هو مؤشر مكان وقوع الحادثة، فقد كان الرئيس الإيراني في زيارة لأذربيجان لافتتاح سد مائي مشترك بين البلدين. وتعتبر أذربيجان معقلاً مهماً للموساد الإسرائيلي، فقد وصفت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أذربيجان في إحدى مقالتها المنشورة عام 2012 بأنها تمثل مرتعاً مريحاً للموساد الذي يعمل بشكل مكثف ضد إيران. في حقيقة الأمر هناك العديد من المقالات والتحليلات التي تتحدث عن الدور الكبير للموساد في أذربيجان، يكفي القول بأن إسرائيل لعبت دوراً مهما في ترجيح كِفّة أذربيجان في حربها مع أرمينا من خلال تزويدها  بالعديد من الأسلحة المتطورة التي تعكس مدى عمق وتغلغل إسرائيلي في أذربيجان.

الاحتمال الثاني: 

ومما سبق، هناك سيناريو لا يمكن تغافله يتمثل في وصول أحد عملاء الموساد لطائرة الرئيس الإيراني التي كانت في أذربيجان هابطة، وبالتالي استطاع الموساد تعطيل أحد أجهزة ملاحة الطائرة بحيث تبدو الحادثة وكأنها حادثة عرضية بسبب سوء الأحوال الجوية. فالسيرة الذاتية للموساد غنية بعمليات الاغتيال الاحترافية التي لا يضارعهم فيها أحد.

الاحتمال الثالث: 

أما السيناريو الآخر: القضاء والقدر! ولكن هذا القضاء والقدر أظهر ضعف إيران في قدرتها على الوصول إلى مكان سقوط الطائرة، فقد استغرق الأمر خمس عشرة ساعة للوصول للرئيس الإيراني، ولم تستطع إيران منفردة العثور على رئيسها الضائع، بل طلبت بشكل مستعجل العون من تركيا وروسيا، الأمر الذي هز صورة إيران داخلياً وخارجياً. في حقيقة الأمر أصبح صانع القرار الإيراني في مأزق، فقد هزت الحادثة صورة إيران بعنف وأحدثت نوع من الخلل في التوازن الأنطولوجي للهوية الإيرانية المتمثلة في تصوير إيران نفسها كقوة إقليمية تستطيع المبادرة.

ردود متوقعة

السيناريو الأول 

فيما يخص طبيعة الرد الإيراني فهناك عدة سيناريوهات يمكن توقعها، هذه السيناريوهات ترتبط بالتحقيق حول ملابسات الحادثة، فإذا توصلت إيران لأدلة قاطعة بتورط إسرائيل فإنها قد تشن هجوماً مباشراً على إسرائيل، وهذه المرة لن يكون مجرد هجوم، بل حرب بكل ما تعنيه الحروب من معاني ومآسي.

 السيناريو الثاني 

وهناك سيناريو آخر أكثر قرباً للتحقق من السيناريو الأول، يتمثل في عدم وصول إيران لأدلة قاطعة ولكن وصولها لبعض الأدلة التي تعزز حالة الشك بأن الموساد تورط بشكل أو بآخر في عملية الاغتيال. وبالتالي قد تعجل إيران العمل في صنع قنبلتها النووية وإظهارها للعلن من خلال إجراء تفجير نووي اختباري تحت الأرض  تلتقطه مستشعرات الزلازل النووية، وذلك في سيناريو يذكر بتجربة كوريا الشمالية لقنبلتها النووية.

سيرافق هذه التجربة إلغاء المرشد الإيراني لفتوته السابقة الصادرة عام 2003، والتي حرم فيها امتلاك الأسلحة النووية، وذلك تحت مبرر خلق حالة من التوازن مع إسرائيل التي تمتلك بالفعل قنابل نووية، خصوصا مع تزايد النقاش الإسرائيلي الداخلي حول إمكانية استخدام القنبلة النووية في مواجهة الخطر الإيراني. وهنا تجدر الإشارة بأن الوكالة الدولية قد حذرت في منتصف الشهر الماضي من أن إيران في حاجة لأسابيع فقط للحصول على ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع قنبلة نووية.

السيناريو الثالث 

أما السيناريو الثالث فقد يتمثل في زيادة حدة المواجهات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية بشكل قد يتطور بمواجهات برية بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله. أما فيما يخص الجانب الإسرائيلي، فإن نتنياهو يتمنى من صميم قلبه وصول إيران للقنبلة النووية، تلك القنبلة ستمكنه من توحيد الصفوف الداخلية الإسرائيلية وحشد الرأي العام الغربي من خلال تكريس سردية العدو الصائل الذي يتربص ” بالشعب اليهودي “، ومن هنا قد يحصل نتنياهو على فرصة ذهبية، حسب اعتقاده، للقضاء على القضية الفلسطينية من خلال تهجير وقتل أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين .

وبشكل عام قد تختلف مسارات الأحداث، لكن النتائج واحدة، وهي نتائج لا تُساعد على تعزيز استقرار الدول العربية التي تُواجه مخاطر الإنهيار.

الباحث الأكاديمي: محمد فضل مندوق. 

باحث دكتوراه في مجال العلاقات الدولية ، معهد البحوث والدراسات العربية، التابع لجامعة الدول العربية – القاهرة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى