البحث يتجدد في أعطاب النهضة العربية ولا أجوبة شافية
[ad_1]
وهو ما قام به رفاعة رافع الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد رشيد رضا، شكيب أرسلان، مالك بن نبي، محمد أركون، وغيرهم من المفكرين الحداثيين. غير أنّ أياًّ منهم لم يقدّم جواباً شافياً عن السؤال المطروح، مما يجعله مفتوحاً على مزيد من الأجوبة. ولعلّ آخر الذين طرحوا السؤال، وحاولوا الإجابة عنه، هو الكاتب والباحث اللبناني وليد نويهض في كتابه “مدخل إلى مأزق الثقافة العربية”، الصادر في بيروت، عن “دار نلسن” و”أوراق للتراث والأبحاث”.
وعلى الرغم من استقلالية مادّة الكتاب ونشرها على شكل مقالات في تواريخ مختلفة، فإنّ الكاتب عمد إلى إدراج ما يُشكّل منها تنويعات على الموضوع الواحد تحت الوجه المختص، وربط فيما بينها بواسطة أدوات الربط المختلفة بحيث تبدو مقالات الوجه الواحد أجزاء في كل. تتحدّث المقالات عن وجوه للأزمة البنيوية الثقافية التي تحكّمت بالفكر الإسلامي وما نجم عنها من انزلاقات عطّلت إمكانات النهضة العربية وفتحت مقابلها قنوات عبور للحروب الأهلية الدائمة”، على حدّ تعبير المؤلّف.
اختلال التوزن
في إطار طرح السؤال المذكور أعلاه ومحاولة الإجابة عنه، يمهّد نويهض لموضوعه، بالإشارة إلى عدم وجود إجماع على تعريف واحد للثقافة. لذلك، يعرّف بها من خلال الكلام على بعض صفاتها وأنواعها وأنماطها، متوقّفاً عند تاريخيتها ونسبيّتها واختلافها من شعب إلى آخر وتعدد أنماطها في الشعب الواحد، بحيث يمكن الحديث عن ثلاثة أنماط في الثقافة العربية، موروث ومتجدّد ومنقول، على سبيل المثال. ولعلّ هذا ما يبرّر الكلام عن التفاوت الثقافي بين شعب وآخر، ويجعل طرح سؤال تخلّف العرب وتقدّم غيرهم في مكانه الطبيعي. وعليه، يقوم، في الوجه الأول، بوضع السؤال في إطاره التاريخي؛ فيشير إلى مرحلة تاريخية طويلة كان فيها توازن بين الحضارات المختلفة، لا سيّما بين الحضارتين العربية الإسلامية والأوروبية الغربية، بحيث تحترم إحداهما الأخرى ولا تفكّر في إلغائها، غير أن هذا التوازن بدأ في الاختلال، منذ القرن الخامس عشر، بفعل عوامل داخلية وخارجية. أمّا الداخلية فتتعلّق بالنظام العلائقي بين المركز والأطراف في الدولة، ففي حين أسهم اعتماد النظام المركزي العمودي في الدول / الممالك الأوروبية إلى قيام دول مركزية متجانسة لاحقاً تمّ تتويجها بالاتحاد الأوروبي، أدّى النظام الأفقي اللامركزي الذي اعتمدته الدولة العربية الإسلامية إلى تشرذمها وتوزّعها على مراكز قوى مختلفة. وأمّا العوامل الخارجية فيحددها الكاتب في: اعتماد أوروبا خطوطاً بديلة للتجارة الدولية تحرّرت فيها من الحاجة إلى العالم الإسلامي، واكتشاف أميركا، ومراكمة الثروة النقدية، واختراع الآلة البخارية، والثورة الصناعية، والانفجار السكّاني ما جعل الحضارة الغربية تمسك بمفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية.
في المقابل، كان العالم العربي الإسلامي تحت صدمة الفجوة الحضارية التي أخذت في الاتساع شيئاً فشيئاً، ووطأة الانبهار بالآخر المختلف، مما أفقده القدرة على المبادرة وجعله يتخبّط في حالة متمادية من التخلّف الحضاري؛ تمظهرت باستشراء الصراعات بين أجزائه المختلفة، على المستوى السياسي. وبالجمود الفقهي والعجز عن اجتراح الحلول لمستجدات الواقع ووقائعه المتغيرة، على المستوى الديني. وبالصراع بين الفقه والفلسفة، على المستوى الفكري. ولعل هذه التمظهرات وغيرها هي التي جعلت هذا العالم يرزح في جموده، ويتخلّف عن مواكبة العصر، ويعجز عن المنافسة والإنتاج الحضاري.
أسئلة مطروحة
كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها وليد نويهض في كتابه، وتتعالق مع السؤال المحوري، في شكل أو آخر؛ وحسبنا الإشارة، في هذا السياق، إلى الفقه، الفلسفة، الاجتهاد، الاستشراق، وغيرها. فالصراع الفقهي الفلسفي اندلع في فترة مبكّرة من تاريخ الدولة العربية، انقسمت فيه النخبة بين فريق أوّل يقول بتحكيم النقل في حياة الإنسان واجتراح الحلول لأزماته من النص القرآني والسنة النبوية، وفريق ثانٍ يقول بتحكيم العقل والأخذ عن الفلسفة اليونانية القديمة، وفريق ثالث يقول بالتوفيق بين النقل والعقل. وفي هذا السياق لا يخفي الكاتب انحيازه إلى الفريق الأوّل المتمثّل بالفقهاء الذين يجرّدون الحلول العملية من النص بينما يعجز الفلاسفة عن ذلك وتبقى مساهماتهم في الإطار النظري المجرّد، ويطغى عليها التجميع والتوفيق والتلفيق والانتقائية. وهنا، نتساءل: ألا يعتبر التموضع الأصلي، أحد أسباب التأخّر في الفكر العربي الإسلامي باعتبار نهائية النص، على إطلاقه، ولانهائية الواقع ووقائعه المتغيّرة؟
انطلاقاً من الأهمية التي يُوليها الكاتب للنص في عملية التغيير، يطرح سؤال الاجتهاد؛ فيرسم حدوده، ويصف واقعه ومرتجاه، ويحدّد وظيفة المجتهد. فحدوده “اللغة، تفسير القرآن، معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، ومعرفة إجماع الصحابة”. وواقعه جمود الأدوات مما أدّى إلى أن تطفو على السطح ظواهر غريبة عن الإسلام، تسيء إليه، وتفتي بفتاوى ليست منه في شيء. ومرتجاه استخدام معايير معاصرة لتلمّس الحل، فشعار “الإسلام هو الحل” جامد، برأيه، ويقترح بدلاً منه “أين الحل في الإسلام؟”. وهنا، نتساءل: أليس هذا الأخير المقترح إعادة صياغة للأول؟ أمّا وظيفة المجتهد، على المستوى الأخلاقي، فيحدّدها بقول الحق، “فالسكوت ليس وظيفة المجتهد وإلا سقطت عنه شرعاً”، مما يستدعي توافر صفتي المعرفة والشجاعة فيه. ووظيفته، على المستوى التقني، “ملاحظة القواعد الكلية وتقديمها على الجزئيات”، كما ينقل الإمام الغزالي عن الإمام الشافعي. وبكلمة أخرى، هي “وضع القواعد العامة لضبط الأحكام الجزئية”، و”إعادة تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمّنة مقاصد الشارع في وضع الشريعة”. من هنا، القول بأن الاجتهاد هو فرض كفاية وليس فرض عين، ولا يستطيع أيٌّ كان التنطّح للنهوض بهذه الوظيفة.
سؤال الاستشراق
لعل السؤال الأكثر تماساًّ مع السؤال المحوري في الكتاب هو سؤال الاستشراق، وهو سؤال ملازم للعلاقة بين الشرق والغرب ويتعلّق بنظرة الآخر الغربي إلى العربي المسلم، وهي نظرة فوقية في كثير من الأحيان، تنطوي على مضمرات استعمارية وتعكس عنصرية أصحابها، من دون أن يلغي ذلك وجود استثناءات لهذا التعميم اتسمت بالموضوعية والمنهجية العلمية. وفي معرض طرحه هذا السؤال، لا تفوت المؤلّف الإشارة إلى أن إجابة الأوروبّيين عن أسئلة التخلّف العربي المذعورة من تقدّم الآخر تتّسم “بروح علمية – واقعية تقرأ التاريخ والجغرافيا وعوامل التطوّر موضوعياًّ وذاتياًّ من دون عقد نقص ودونية”. وبهذا المعنى، تكون القراءة الأوروبّية أفضل من القراءات العربية لأسباب التخلّف. وعلى الرغم من هذه الإيجابية، فإنّ سلبيات كثيرة تعتور القراءة الاستشراقية للحضارة العربية؛ فهي تُخرج الفقهاء وعلماء الكلام من حيّز الفلسفة.
أمّا الفلاسفة الذين تعترف بانتمائهم إلى الفلسفة، فتقصر مساهمتهم على الجمع والنقل من دون الإبداع ووضع النظريات. وبذلك، تُخرج العرب من هذا الحقل المعرفي، وتجعله حكراً على الغربيين، وفي هذه القراءة من العنصرية والشوفينية ما فيها. “فالعقل الفلسفي العربي، برأي معظم المستشرقين، مجرّد تنويع لفظي على الفكر الجدلي اليوناني”. وهذه النظرة ينسبها المؤلّف إلى الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل الذي يرى أن العرب كانوا مجرّد جسر لنقل الحضارة اليونانية إلى الغرب. وهي نظرة تبنّاها كثير من المستشرقين.
وفي معرض تعليق المؤلّف على أجوبة السابقين له عن الأسئلة المطروحة، يصفها باللفظية وتغليب القراءة الفكرية على التاريخية، مما أدّى إلى إنتاج “هواجس أيديولوجية متنافرة جمعت بين العصاب والعصبية من دون أن تصل إلى تأسيس معرفة مستقلّة أو تكشف الطريق الخاص للتقدّم…”. وإذ أنفي عن كتابه الشقّ الأوّل من التعليق المتعلّق باللفظية وتغليب القراءة الفكرية على التاريخية، فإنني أبيح لنفسي التساؤل عن مدى تحقّق الشقّ الثاني من التعليق في مقالات الكتاب المتعلّق بكشف الطريق الخاص للتقدّم، وأترك الإجابة للقارئ. وأياًّ تكن الإجابة، فنحن إزاء جهد معرفي كبير لتشخيص مأزق الثقافة العربية بذله المؤلّف، على مدى سنوات، مستنداً إلى عشرات المراجع، القديمة والحديثة.