حديقة بن عكنون .. ذاكرة ملايين الجزائريين تُصارع للبقاء
[ad_1]
فالحديقة التي تقع بين بلديتي بن عكنون وحيدرة، على بعدِ أقل من 6 كيلومترات من وسط العاصمة الجزائر، تُعتبر منذ افتتاحها سنة 1982 واحدة من الإرث المشترك بين الجزائريين،. إذ ليس سكان العاصمة وحدهم من كانوا يتنقلون إليها للتنزه، بل يقصدها الزوّار من كلّ الولايات، وحتى السياح الأجانب، خاصّة أنها تتربع على مسافة تفوق الـ304 هكتارات، جزء منها مخصص للحيوانات وآخر للألعاب والترفيه.
لكنها تعرضت للإهمال منذ سنة 2011، لأسباب أغلبها إدارية، حتى إنه تمّ غلق الجزء المخصص للتسلية سنة 2019، ولا تزال حديقة الحيوانات تعاني من مشاكل مالية، أثرت على الخدمات المقدمة على مستواها.
حسرة على الزمن الجميل
ومنذ أشهر عادت ذاكرة الجزائريين لتستحضر الزمن الجميل لهذه الحديقة، من خلال نشر مقاطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تصور ساحاتها وألعابها المهجورة، وتتحسر على ما آلت إليه. وهي المنشورات التي تفاعل معها الملايين على الإنترنت، حيث راح كل واحد منهم يستذكر لحظات من طفولته فيها .. وعادة ما يبدأ تعليق كل واحد منهم بعبارة بالعامية الجزائرية: “يا حسراه..”، وتعني التحسر على أيام خوالٍ، وترافق ذات العبارة “إيموجي” لوجه باكٍ، وتنتهي بـ”إيموجي” آخر، لوجهٍ غاضبٍ من وضعها الآن، وعدم التحرك لتهيئتها.
الحديقة التي قاومت العشرية السوداء
“العربية.نت” فَضَّلت أن تغوص في الذاكرة الدَّفينة لهؤلاء الجزائريين، من خلال مرافقة شاب (39 سنة)، من الجزائر الوسطى، قضى أجمل ذكريات طفولته في حديقة التسلية بان عكنون. بمجرد أن عَرَضْنا عليه الفكرة، راح يحكي لنا كيف أنَّ والدته كانت تستغل أيام العطل والمناسبات، لتأخذهم في نزهة هو وأخوه الأكبر إليها.
وقال مهدي أيضا إنّ طفولته في تسعينيات القرن الماضي تزامنت مع الأزمة الأمنية (أو ما صار يُطلق عليه العشرية السوداء)، حيث لم تكن توجد كثير من المنتزهات والحدائق، وكان التنقل إلى بعضها يشكل خطرا، وهو ما يُفسر كون أغلب ذكرياته عن تلك الفترة في حديقة بن عكنون، إذ يحتفظ عن كلّ زاوية أو ركن منها بمشهد أو صورة تنقله إلى الوراء.. بعشرات السنين.
منذ أن اِستقللنا الحافلة المتجهة من الجزائر الوسطى نحو بن عكنون، والارتباك بادٍ على ملامح مهدي، كما لو كنا نقوده في رحلة عبر الزمن. كيف لا؟ وهو لم يطأها منذ 30 سنة. في البداية لم يتوقف مرافقنا عن الحديث عن الحديقة وما عاشه فيها، وكلما اقتربت الحافلة من المحطة الأخيرة، شَحَّتْ كلمات مهدي، كأنّ الحسرة تمكنت منه، أو كأنه انغمس في ذكريات .. أقسى وأمرّ من أن تُسرَد.
“محطة الحافلات هذه جديدة.. كان مكان المحطة الرئيسة في الساحة العمومية القريبة من ثانوية المقراني 1” .. قال مهدي هذا ونحن نهم بالنزول من الحافلة، ونتوجه إلى مدخل حديقة الحيوانات.
شواهد لم تتغير
الجسر، كشك الجرائد، وحتى المدخل الرئيسي.. هناك شواهد لم تتغيّر، بقيت على حالها، كأنها تأبى أن تخون عهد الزائرين القدامى، وتنتظر كل واحد منهم لتدلّهم على المكان، وهكذا فعلت مع مهدي الذي كان يُطيل النظر في الشواهد التي يعرفها كأنه يسائلها: “هل تذكرتني؟! … أنا مهدي .. كنت آتي رفقة والدتي وأخي.. والدتي وكلما اقتربنا منك كانت تُعطيني قطعة نقود من ذوات العشر دنانير، لأسبقها ركضا إليك وأشتري الجريدة الناطقة بالفرنسية لا يمكن أن لا تتذكري هذا..”.
قال مرافقنا هذا بينه وبين نفسه، وهو يُمعن النظر في الكشك وفي بائع الجرائد (رغم أنّ الأخير شاب لم يتعدَ العشرين من العمر)، ثمّ التفت مهدي إلى بائع حلوى “لحية بابا” (حلوى الصوف)، ليُعاتبه:”كنت دائما تُحرجني أمام والدتي وأنت تخاطبني عندما أمدّ يدي لأتناول قصبة الحلوى منك: “.. من لا يملك لحية لا أعطيه الحلوى.. فأخجل وأطأطئ رأسي، وأنظر إلى والدتي أستأذنها في أن أتناول عنك الحلوى، وأنا آخذ مزحتك في الوهلة الأولى مأخذ الجد، ثمّ أحوّل نظري إلى أخي الأكبر فآراه يبتسم، لأعلم حينها أنّ البائع يمزح… فآخذ “لحية البابا” فرحا مغتبطا.
جُزء من ذاكرة الجزائريين مُهدد بالزوال
اِرتبك مهدي وهو على بعد خطوة واحدة من دخول حديقة التسلية والحيوانات ببن عكنون في العاصمة الجزائر.. اِلتفت إلينا وكأنه يستأذننا بنظراته أن يتقدَمنا، لا لمسافة متر أو مترين .. بل جيل كامل أو جيلين. أن يُغادرنا إلى زمان ومكان، تتقاسمهما ذاكرة ملايين الزُوّار الذين كانوا يتنقلون إليه قبل أن يتحوّل إلى أطلال .. أو يكاد.
كنا نتوقع أن ينطلق في حديث غير منتهٍ، وهو يتقدم في السير، لكن بالعكس من ذلك، قضى وقتا طويلا وهو يتأمل المكان. ألقى بنظرة طويلة على اليسار فاليمين، كأنه يتفقد ما إن كان ما تركه منذ 30 سنة مزال في مكانه. ثمّ راح يقودنا كأنه لم يفقد أيَّا من معالم المكان.. كأن لم يكبر. لم يتزوج. لم يُنجب. لم تُذهب ذاكرته مصائب العمر ونوائب الدَّهر.
لم نسأله بعدها، لم نحاول استنطاق ذاكرته . كنا نقرأ على ملامحه كل ما نريد معرفته. بل كنا نشاهد في عينيه ملاعبته للزرافة، وخوفه من الفيل، وشوقه لرؤية الأسد الذي خُصِصَتْ له مساحة كبيرة، وبها نهر صغير وأشجار كثيفة، ما يجعل مهدي وأخاه يتسابقان كلما اقتربا من قفصه، على لمحه، وكان الأخ الأكبر يراه أولا، ولكن يترك مهدي يواصل لعبته حتى يصرخ: “ها هو إنه وراء تلك الصخرة.. فزت .. أنا رأيته أولا”.
ورأينا الثلاثة يسيرون نحو مدخل حديقة التسلية والألعاب، عندما ينتصف النهار. بعدما ألم بهم شيء من التعب والجوع. يستريحون في الطريق لتناول وجبه الغذاء، ثم يواصلون نحو قاعة الألعاب الإلكترونية، التي لم ينقطع شغف مهدي بها حتى الآن. ويلعبون لعبة الباخرة، حيث ينزلُ كل من مهدي وأخوه، يكاد يُغمى عليهما من أثر الدُوار. بل شاهدنا الاثنين أيضا، وهما يدخلان قطار الأشباح، فيخاف مهدي، ويعانقه الأخ الأكبر، محاولا طمأنته.
كنا نشاهد أيضا، والدة مهدي، وهي تُشارك اِبنيها اللُعبة، فتضحك لضحكهما وتأسف لحزنهما. فتنسى أو تتناسى فصولا من لعبة الكبار التي تلعبها مع وضعٍ قاسٍ، لتربيتهما والسَّهر على راحتهما.
زوّار بالملايين وسُياح يفتقدون المكان
من جهته صرح الأمين العام للمكتب النقابي لحديقة الحيوانات والتسلية “الوئام” بن عكنون، جمال توامي، بأنّ “الحديقة التي افتتحت سنة 1982 شهدت عهدا ذهبيا سنتا 1985، و1986، ثم تراجعت بفعل الوضع الأمني خلال العشرية السوداء، وعادت لتكون القبلة المفضلة للجزائريين، بداية الألفية الحالية”.
كما أضاف توامي الذي يشتغل في الحديقة منذ قرابة الـ26 سنة، لـ”العربية.نت”، بأنّ “عدد الزوار اليومي كان يصل إلى حوالي 3 آلاف زائر يوميا، قادمين من كل الولايات الجزائرية، ومن ذلك الرحلات المنظمة في إطار الرحلات المدرسية أو المنظمة من طرف الجمعيات السياحية والثقافية”، وحتى السياح الأجانب، أضاف محدثنا “كانوا يزورونها من حين لآخر، حتى إنها كانت تمتلئ عن آخرها أيام العطل ونهاية الأسبوع وفي المناسبات”.
وأغلق الجزء المخصص للترفيه والألعاب مثلما أغلق فندقا “الموفلون دور”، و”المونكادا” منذ سنة 2019، أما حديقة الحيوانات التي بقيت مفتوحة للزوار، فهي الأخرى تعاني بفعل الأزمة المالية”.
وقال توامي إن “البعض لا يزال يستفسر عن وضع حديقة التسلية حتى الآن، ومنهم شخص من ولاية المدية، جنوب الجزائر العاصمة، كان مشرفا على تنظيم رحلات لتلاميذ المؤسسات التربوية، حتى إنه كان يقضي أيام العطلة كلها في الحديقة.. لا يزال إلى الآن يهاتفني ويسألني عما إذا كانت ستفتح أبوابها قريبا أم لا .. ولا أستطيع جوابه”.